التنمية في السودان

التنميه في السودان
بين فلسفتها ومآلات الواقع

أطل اليوم علي صفحات المنتدى بهذا الموضوع الذي ظل يمثل المحور الاهم في تاريخ بلادنا منذ الإستقلال من الناحيه النظريه علي أقل تقدير ولكنه علي أرض الواقع أخذ يتأرجح بين الأهميه واللامبالاه والتقدم والتراجع منذ ان حصلنا علي إستقلالنا وحتى اليوم . لقد ورثنا عن البريطانيين مشروعات تنمويه لا يمكن أن نتجاوزها لمجرد أنها تنتمي للعهد الإستعماري كالخزانات ومشروع الجزيره والمشروعات المرويه الأخرى والسكه حديد والنقل النهري والخطوط البحريه والجويه والخدمه المدنيه . خلال العقود الثلاثه التي أعقبت الإستقلال في الخمسينات والستينات والسبعينات تقريباً حققنا تقدماً معقولاً في المزيد من مشروعات التنميه كالطرق القوميه وإمتدادات السكه الحديد ومصانع السكر والنسيج والكرتون والجلود والالبان والزيوت وتعليب الفاكهه ومشاريع الكناف والإرز والاخشاب وهذه الأربعه الأخيره بالجنوب وغير ذلك من الصناعات الخفيفه , وحتى في مجال إنشاء البنوك المتخصصه التى تدفع بمشروعات التنميه وترسخ قواعدها كالبنك الصناعي والزراعي والتجاري . كنا نسير بطريقه هادئه وخطوات معقوله في تلك الفترات السياسيه , وكان يمكننا أن نبدأ خطوات الطفره الإقتصاديه والتنمويه الكبيره لنصل إلى المستويات العالميه . لكننا تراجعنا بعد نهاية عقد السبعينات تقريباً , بل بدأنا في تدمير ماحققناه وحتى ماخلفه البريطانيون من مشروعات خاصه بعد عام 1989, المشهور رغم إمكانيات البلاد الهائله من الاراضي الشاسعه والخصبه ومياه الانهار العديده والمياه الجوفيه ومناسيب الامطار العاليه في كثير من مناطق السودان , وما يختزنه باطن الارض من معادن ونفط وموقع البلاد المتميز علي الخريطه الاقليميه .
لماذا حدث ذلك وماهى اسبابه ؟ هذا ما سأحاول الإجابه عليه في هذا المقال .
التنميه في أبسط تعريف لها هي عباره عن جهود تؤدي إلى تغيير إقتصادي وإجتماعي في حياة الإنسان , ويلعب الإقتصاد دوراً كبيراً فيها وهو علم إدارة الموارد بما يحقق الفائده القصوى منها . للتنميه ركيزتان فنيه وأخرى مرتبطه بالواقع السياسي ومدى إستقراره .
1/ إذا نظرنا إلى واقع دول العالم المتقدم نجده وقد توفرت له الركيزتان , الخطط والبرامج والتنفيذ السليم ويمثل ذلك الركيزه الفنيه إضافه إلى واقع سياسي هيأ المناخ الصالح لتحقيق أهداف هذه المعادله . هذا الواقع السياسي سواءً في أوربا أو الولايات المتحده الامريكيه أو غيرها من الأمم التى تقدمت هو حجر الزاويه في تهيئة الظروف لتأسيس حكم يقوم علي مبادئ المشاركه الحقيقيه والعدل والحرية .ويتمثل ذلك في الأجهزه التشريعيه التي تشرع وتحاسب السلطه التنفيذيه , وحريه حقيقيه للإنسان نابعه من دستور يعبر عن إرادة الشعب يكفل له هذه الحريه بكل مقوماتها بما في ذلك حرية الرأي والتعبير وسلطه قضائيه مستقله تفصل بين السلطتين التشريعيه والتنفيذيه وتقيم العدل بين الناس . وهذا ماعرف في الفكر السياسي بمبدأ فصل السلطات (Seperation of Powers) ولكي لا تتغول سلطه علي أخرى . هذا النوع من الحكم وبهذه الأبعاد هيأ للمواطن في الدول الغربيه الفرصه الكامله في أن يصنع نظاماً للحكم برضاه ويستطيع تغييره إذا اراد . لهذا نجحت برامج التنميه لديهم لتوفر عناصر النجاح الأساسيه وهي الجوانب الفنيه والمشاركه الحقيقيه والرقابه في التنفيذ وصيانة الموارد من عناصر الفساد .
2/ نحن هنا في السودان لم تتوفر لنا مع الأسف هذه العناصر الضروريه لتحقيق التنميه . قد نكون حققنا جهداً معقولاً في الجوانب الفنيه عن طريق جهود المختصين السودانيين الذين ربما إجتهدوا في وضع الخطط وتسخير خبراتهم في هذا الجانب وهم العلماء والخبراء والمثقفون السودانيون , ولكننا أخفقنا في الجانب الآخر من المعادله الذى توفر في الغرب وهو المشاركه الحقيقيه وحرية الرأي ومظاهر الحكم الرشيد , وظللنا نتخبط إلى ما يزيد عن الخمسين عاماً في ظل نظم حكم إما ديموقراطيه عمرها قصير لم تتح لها الفرصه الكامله لتعبر عن نفسها ,أو نظم حكم شموليه جثمت علي صدور الناس سنين طويله لم تتحقق للناس خلالها المشاركه الحقيقيه المطلوبه في إداره شؤون بلادهم السياسيه والاقتصاديه والإجتماعيه . لذلك أصبحت المعادله المطلوبه لنجاح التنميه فاقده لعامل نضوج التجربه السياسيه , ذلك لأننا تخلفنا سياسياً خلال فترات ما بعد الإستقلال . لذلك ماحققناه من مظاهر تنميه لبلادنا جاءت شبيهه بكسبنا السياسي منذ الإستقلال وحتى اليوم , ويتمثل في مظاهر التقدم النسبي والمعقول في مشروعات التنميه الذى حققناه خلال العقود الاولى التى اعقبت الأسقلال , ثم التراجع بل وفقدان ماحققناه في نهاية الامر !
3/ إبن خلدون المفكر المسلم المعروف في التاريخ الاسلامي تطرق لحقوق الفرد التى تجعله يشارك في بناء مجتمعه قبل مئات السنين , وقد أشار لهذه الحقوق بكلمة (المال) وهو تعبير قصد به عموم الحقوق التي تمكن الفرد من أن يساهم في بناء مجتمعه وعدم التعدي عليه بالعدوان فقال (العدوان علي الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في إكتسابها ) أي إنقبضت أيديهم عن السعى لها وهذا هو (الظـلم) . وقـال إن الظلـم
ليس أخذ المال من صاحبه بغير عوض , بل الظلم أعم من ذلك وأشمل فهو يؤدي الى قعود الناس ويأسهم وإحباطهم وبالتالي الى ضعف المجتمعات وتخلفها ! إذن فحينما تحرم المواطن من الحريه فأنت تظلمه , وحينما تحتكر السلطه دون مشاركه حقيقيه له فأنت تظلمه , وحينما تفسد وتهدر موارده فأنت تظلمه ! هذا من تراثنا الإسلامي , هل راعيناه ام اننا رفعنا شعارات بعيده عن كل ذلك وطبقناها بسذاجه فكريه وسياسيه مع إستغلال للمشاعر الدينيه لدى الناس ومظاهر خداع وغوغائيه وقد اوصلنا كل ذلك الى مانحن فيه اليوم !
4/ صدمة المستقبل : أشير هنا إلى ما إطلعت عليه لأحد الكتاب الامريكيين وما أسماه بصدمة المستقبل . وبهذه المناسبه ليس كل أمريكي أو غربي علي وجه العموم بالضروره معاد لنا أو لدول العالم الثالث . من هؤلاء من قلبهم علي هذه الدول الفقيره المسكينه وخاصه العلماء وهذه خاصية العلم , فالعالم أفقه واسع وقلبه فيه رحمه . آينشتاين مثلاً العالم الفيزيائي المعروف ندم علي إكتشاف الذره عندما صنعت منها القنبله الذريه والقيت علي مدينتي هيروشيما ونجازاكي في اليابان في الحرب العالميه الثانيه .
هذا الكاتب الامريكي الذي ذكرته في بداية الفقره وما أسماه بصدمة المستقبل نبه دول العالم الثالث الفقيره من هذه العولمه وهجمة الدول الكبرى عليها في إطار حديث له عن التنميه ومواجهة المشكلات الحاده التى ستواجه هذه الدول الفقيره إذا لم تتيقظ وتنجو بنفسها قبل فوات الأوان , وقد أسماها (صدمة المستقبل ) نتيجة التطور السريع في عالم اليوم الذي تقوده الدول الكبرى في إطار سياسة العولمه وعناصرها سرعة المعلومات , سيطرة رأس المال للشركات الكبرى العالميه , فتح الحدود رغم إرادة هذه الدول ! كل ذلك سوف يؤدي بدول العالم الثالث إلى مجتمعات أكثر فقراً وعجزاً وضعفاً ومن بينها السودان بطبيعة الحال , وهي الصدمة المستقبليه التى عناها ذلك الكاتب بحيث إذا ارادت هذه الدول أن تنهض لاتستطيع فقد فات الأوان ! فهل فات آوان السودان حقاً الآن وضاع الأمل في التنميه والنهوض وأصبحت البلاد يلفها الأرق والهم وتعيش علي بقايا أمل تنظر إليه في الافق البعيد وهي تردد قول شاعرها الكبير محمد سعيد العباسي عليه رحمة الله :
أُرِّقْتُ من طولِ هَمٍ بَاتَ يَعْرونِي يُثِيرُ من لاعِجِ الذكرى ويَشْجُونِي
مَنِّيْتُ نَفْسِيَ آمالاً يُمَاطِلُنِـــي بها زَمانِــيَ مــن حِيـــنٍ إلى حِيـــــــنِ .​
أو في قول أبي الطيب المتنبي في لاميته التي تتبادر إلى الذهن أيضاً وهو يستشرف الأمل في أفقه البعيد حين يقول :
نَحنُ أدْرَى وقد سألْنا بِنَجْدٍ أطويلٌ طريقُنا أم يَطولُ
فكثيرٌ من السُّؤالِ إشتياقٌ وكثيرٌ مــن رَدِّه تعـــليلُ​
سليمان الطيب منير
العيلفون
0122217007​
 
التعديل الأخير:

احمد الحبر

Administrator
طاقم الإدارة
مقال بلونيه مختلفه وفكرة جديده تختلف عن المقالات السابقه .. فيه يتعرض الاستاذ سليمان الى سبب تراجع نمو التنمية بصورة عامة في السودان ومقارنتها مع الحقب السابقه ..

وهنا مثّل الاستاذ سليمان دور الجراح الماهر الذي يحمل بيده مشرط العملية محدداً مكان الداء والدواء ..

سلمت يداك يا استاذ ..
 

BADR ELSIR

Administrator
طاقم الإدارة
الشكر والتقدير...
للاستاذ سليمان الطيب منير وهو يبحر بنا فى دنيا التنمية ...
بين واقع السودان ...
وفلسفة إبن خلــدون
وصدمة المستقبل للكاتب الأمريكى ألفين توفلر...
الم يقل عبد الرحمن بن خلدون:
من أعظــم أنواع الفساد والظلم أن تشترى الدولة
مابين إيديهم بأبخس الأسعار
ثم تفرض البضائع عليهم بأرفع الأسعار..
مما يخلق على الرعايا العنت والضيق وفساد الأرباح
وبذلك يقع الخراب بالتدرج...
اما الفين توفلرAlvin Toffler
فهو كاتب مهتم بالثورة الرقمية وثورة الاتصالات
وهؤ استاذ الرؤساء كما يقولون... فقد تتلمذ على يديه
الرئيس الروسى غورباتشوف
ومهاتير محمد بانى نهضة ماليزيا
وأبو الكلام رئيس الهند
ولك أن تعرف أى كاتب هذا...
من أجــمل ماقالــه:

"الأميون في القرن الواحد والعشرين
ليسوا من لا يقرؤون ولا يكتبون،
لكن أميي القرن الجديد هم الذين ليست عندهم قابلية تعلم الشيء
ثم مسح ما تعلموه ثم تعلمه مرة أخرى".

شكرا إستاذ سليمان فهذا مقال عميق فقد طفت بنا
فى بحور ثقافية عميقة...
 
أعلى