خوازيق التعليم !!!

خوازيق التعليم !!!

إذا أردنا للسودان الوطن العزيز أن ينهض من كبوته و يلحق بركب الأمم المتحضرة أو بالكاد العودة إلى المربع الأول الذي تركنا عليه "الإنجليز " فلا مناص لنا سوى إجراء "تقويم" شفيف لمخرجات تعليمنا الحالي هدفاً لصناعة مشروع وطني تعليمي جديد تتبناه وزارة التربية والتعليم وتدعمه الدولة ويؤازره المجتمع السوداني كافة ، وذلك بالتحررمن سلسلة الأنماط السلوكية و"الخوازيق" التي ترسخت في أوجه حياتنا السودانية المعاصرة وطالت المجالات كافة ، عطفاً على نتاج تعليمنا البائس الذي تلقاه أبناؤنا في مؤسسات التعليم طوال الثلاثة العقود الماضية ولا يزالون يتلقونه ؛ فأضحى مردوده السلوكي جزءاً أصيلاً من ثقافة المجتمع وموجهاته وسأشيرفي هذا المقام إلى جانب يسير من "خوازيق" التربية والتعليم وأترك أمر "الخوازيق" الأخرى للساسة و المختصين والباحثين وما أجلّها من "خوازيق" ! وأجلّ ما ينتظرها من تداعيات أدناها تفلت الأسواق والأسعار ومشهد الصبية الذين يبيعون المناديل والفواكه المعطوبة والمساويك والأناتيك في تقاطعات الطرق الرئيسة بالعاصمة الخرطوم وهذه الأيام ومع بشائر عيد الأضحي المبارك ظهرت السواطير والسكاكين والشوايات في ذات الشوارع حتى شارع القصر التاريخي الذي شهد معظم أحداث السودان العظام و بهر الحكام العرب كما بهرتهم "الخرطوم" وجمالها ورقيها ونظافتها في العام " 1967" في مؤتمر اللاءات الثلاث والذي من المفترض أن تكون له خصوصيته ووقاره ؛ أصبح هو الآخر مرتعاً للمتسولين والمشردين وحلقات ستات الشاي " أين الوالي؟ بل أين آلياته ومعاونوه الذين يقبعون في هذه المكاتب والدهاليز ويطالبون بزيادة الحوافز والاستحقاقات ؟ نعود لموضوع "خوازيق" التعليم ؛ وأولاها "خازوق" إلغاء المرحلة المتوسطة التي تناولنا أمرها في المقال السابق وخذ مثلاً السلوك "الخازوقي" لمعلمة التربية الإسلامية التي استأجرت صالة أفراح لإقامة حصة عشية اليوم الذي يسبق الجلوس لمادة التربية الإسلامية في امتحان الشهادة الثانوية للعام " 2021 " وألزمت المستهدفين والمستهدفات بدفع قيمة "ألف جنيه" كشرط قسري لحضور الحصة لأنها كما يتوهم ضحاياها أنها تملك الوصفة السحرية لفك طلاسم الامتحان !! وخذ مثالاً " خازوقياً " آخر الإعلان الراتب الذي يشغل فراغات قنواتنا الفضائية هذه الأيام ويبشر بمعهد المعلم النجم فلان الفلاني الذي يقدم خدمة استثنائية " أون لاين " لتدريس منهاج شهادتي الأساس والثانوي "من الغلاف إلى الغلاف " كما يفصح عنه فحوى الإعلان ويقوم بالتدريس فيه نخبة مميزة من معلمي السودان يقودهم (علي جغرافيا ومحسن كيمياء وآدم أبو صلعة والدكتور أبو ريشة إلى الآخر) ، هذا الإعلان يمكن أن يضاف إلى قائمة السلوكيات العبثية التي طالت أوجه حياتنا التعليمية كافة خلال العقود الماضية وتناغمها مع زمرة المفاهيم والمصطلحات الأخرى على شاكلة حصص التركيز وأوراق العمل والخيم التعليمية والمعسكرات والمجموعات والمذكرات والمختصرات ونشر الامتحانات في الصحف الشعبية وغيرها من أنماط الممارسات التربوية "السبهللية" الدخيلة على قيم التعليم ورسالته التي تصب في إطار الإصلاح وتزكية النفس . أما درى هؤلاء المعلمون الأفاضل وهم يروجون بهذا الإعلان أنهم من وراء إعلانهم "الخازوقي" هذا ينسفون قيماً ويهدمون بناء ؛ باختزالهم لعملية التربية والتعليم أنها مجرد امتحان في نهاية العام وإلغاء كامل لدور المدارس ووزارة التربية والتعليم بمعلميها وعامليها وموظفيها ودورهم في حمل الأمانة وتبليغ الرسالة وتحقيق أهداف التعليم وغايته ؟؟ على الرغم من أن هذا التوجه يمكن أن يقبله العقل لو اتسق مع برامج وزارة التربية وتوجهها في نشر ثقافة التعليم الإلكتروني وتبني مبادئه كسياسة عامة للوزارة بأسس علمية مدروسة تستأثر بها شريحة واسعة من أبناء السودان ومدارسهم دون الاستغناء عن المدارس وتواصلها الإنساني بينها وبين تلاميذها ، وهل حسب هؤلاء المعلمون الأفاضل الآثار السالبة التي يمكن أن تنعكس على التلاميذ وتربيتهم ومستقبلهم وأسرهم من توجيه هذه الخدمة الاستباقية إلى فئة دون أخرى وولاية دون غيرها وأجواء التشويش والربكة التي يمكن أن تحدثها في بقية شرائح الطلاب أو التلاميذ والمعلمين ومدارسهم ؟ وأنه من المدهش حقاً أن يكون ضمن المعلنين حملة شهادة الدكتوراه وهي درجة علمية رفيعة يسوِّقون بها عن ذاتهم ويروجون بها لتلاميذ صغار ويدعوهم لاتباع هذا المبدأ دون أن يدركوا أنهم بهذا السلوك المخل يفرغون الشهادة الرفيعة من محتواها وشهادات أمثالهم من قائمة العلماء الباحثين عن حلول الأزمات ويحولهم إلى قائمة المتاجرين والاستثمار في عقول الأطفال ؛ فطوبى لشهادة الدكتوراه وطوبى للجامعة التي منحتهم هذه الشهادة !! ، وقد يكون الأمر مقبولاً لو أُتبع النهج ذاته ( من الغلاف إلى الغلاف ) في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي وفق ما اقتضته دواعي العصر وجائحة "كورونا " وغيرها من المسببات لأن الطالب في هذه المرحلة قد وصل مرحلة من النضج تجعله قادراً على أن يستوعب هذا التعامل التقني الجديد أما من هم في مرحلة التشكل وتكوين ملامح الشخصية فسيطيح هذا التعامل بأسس النمو المعرفي والخصائص النفسية للمرحلة التعليمية ، وثمة أسئلة حائرة نوجهها لهؤلاء المعلنين الأماجد لماذا هذا البرنامج ؟ ومن القائمين على أمره ؟ومن الذي منحهم الضوء الأخضر لتنفيذه ؟ ؛ علماً بأن امتحانات شهادتي الأساس والثانوي لا تحتاجان لكل هذا العناء والهوس الأكاديمي الموسمي وعادة ما تُبنى امتحاناتهما لينجح كل تلاميذها وطلابها بل طبيعة الامتحان وأسئلته الموضوعية تحتم ذلك ؛ فقط يحدث تفاوت في أسئلة الشهادة الثانوية لتتيح التنافس في الانتساب إلى مؤسسات التعليم العالي ؛علماً بأن الحقيقة الراسخة أن الذين يرسبون في شهادتي الأساس و الثانوي وفق ما أشارت الدراسات الموثوقة جلهم من الذين لا يتقنون مهارتي القراءة والكتابة والامتحانات أصلاً لا تخرج عن نطاق الكتاب المدرسي والدليل المصاحب لها ولا تحتاج إلى أي دعم خارجي من دكتور أو بروفسورومذكرات ومريحات وملخصات وخدمة "أون لاين " ، ومن الملاحظ أيضاً أن معظم التلاميذ الذين ينساقون وراء هذه البرامج من التلاميذ والطلاب الضعاف ومتوسطي الفهم ومعظم المتفوقين والمتفوقات يلتزمون ببرامج مدارسهم وتوجيهات معلميهم ويستطيع معلموهم المختصون في المواد في سياق عملهم العادي أن يغرسوا فيهم كثيراً من القيم ويعبروا بهم إلى المرحلة الثانية من النظام التعليمي ، ومن الخوازيق الجديرة بالاهتمام القناعة التي ترسخت لدى معظم المعلمين أن التعليم أصبح "بزنس" وسلعة تباع وتشترى وفقد المعلم بهذا السلوك وقاره وهيبته وأصبح مثله مثل بائع اللبن ... تحديد قيمة الساعة والحصة والكتاب والصفحة واستخفافه بقيمة العمل بالمدرسة الحكومية والتفرغ أياما بالعمل في المدارس الخاصة أو معسكرات وخيم التعليم وفي هذا ماذا لو أصدرت وزارة التربية والتعليم قراراً مشفوعاً باليمين يلزم المعلم ليبقى بمدرسته الحكومية طوال اليوم الدراسي ليؤدي واجباته المدرسية الأخرى؟ وإلا فليفسح المجال لغيره ليشغلوا هذه الخانة وهناك الآلاف من خريجي كليات التربية العطالى والمتسكعين في الشوارع والطرقات ويبحثون عن فرصة عمل ؟ ومن الطريف في السودان أن أغلب مدارس التعليم الحكومي بيئاتها أفضل من بيئات المدارس الخاصة والأصل في المدارس الخاصة وفي الخدمة الخاصة عموماً أن تكون أفضل من الخدمة الحكومية ورغم هذا تهاجر نسبة كبيرة من طلاب وتلاميذ التعليم الحكومي بدعم من أسرهم للدراسة في مؤسسات التعليم الخاص في المنازل المهجورة والخرابات وبين ثنايا الأسواق وورش الحدادة و تستمد معظم المدارس الخاصة قوتها ووجودها من معلمي المدارس الحكومية على مرأى ومسمع من المسؤولين والمؤتمنين على التعليم وأرجو ألا يفهم من حديثي هذا أنني أدعو إلى مناهضة التعليم غير الحكومي ولكن القصد أن تسمى الأشياء بمسمياتها وأن تكون للتعليم الخاص مؤسساته المستغلة ومعلموه ومديروه الثابتون والمعتمدون من قبل الإدارات التعليمية ومستوفون لكل المعايير والكفايات مثل ما يحدث في كل مؤسسات التعليم الخاص في الدول من حولنا ، وأخيراً آمل أن يكون هذا المقال المتواضع محاولة صحوة صغيرة لإدارة حوار عميق وشفيف حول التعليم ومخرجاته ، بمواجهة حقيقية مع الذات وما أقساها من مواجهة ... أسأل الله لي ولكم العفو والعافية وحسبنا الله ونعم الوكيل.
 
أعلى