مقتطفات من رواية نيلوفوبيا: تشيزوفرينيا سياسية

ودالفحل

New member
أيام الجامعة ممتعة ولكنها انقضت بسرعة. وتخرجت وفرحت بالشهادة وفرحت أمي وأختي «نسمة» التي أصبحت تتباهى بي بين زميلاتها. وبحثت عن الوظيفة ولكن دون جدوى. فقد اعتدت أن أذهب إلى الخرطوم كل يوم في الحافلة الزرقاء ذات الخط الأبيض باحثاً عن الوظيفة ثم أعود في آخر النهار مغبراً متعرقاً متعباً وجائعاً ومحبطاً لأتعلق في باب الحافلة وأعود واقفاً فالمقاعد كلها والممر تكون قد امتلأت وحين يحالفني الحظ وأجد مكاناً في الكنبة التي في مؤخرة الحافلة أو حين ينزل أحد الركاب في سوبا شرق أو الكرياب أجلس في موضعه مشيحاً بنظري عن الركاب الصامتين أحياناً قليلة والصاخبين في معظم الأوقات وشلة الكنبة الأخيرة والأنس الساخر الجميل وتعليقاتهم ونكاتهم وقفشاتهم ومشاغلة الكمساري. والسعيد من يصحب أبكعوك في رحلة العودة من الخرطوم أو بلال ود الشايب الذي يجعلك تنسى محطة النزول وتصحبه إلى آخر محطة حتى ينزل وحينها تفيق من لوثة الضحك الهستيري الذي يدخلك فيه بنكاته وقصصه. وحين تخلو الرحلة من هؤلاء العظماء الذين لا يحملون هم العيش والرزق وينطلقون في الحياة بمرح ويجعلونك تحتقر أصحاب الملايين ذوي الوجوه المتجهمة الكالحة كنت أنظر من النافذة إلى الطريق المتعرج والأرض الجرداء الغبراء المتشحة بالكآبة وقد تشققت أطرافها وكشرت عن طين أسمر داكن تخترقه أخاديد وآثار عجلات اللواري والبصات وتتقاطع متراقصة وكأنها ترسم لوحات تجريدية بائسة من الدقداق الذي تخلفه إطارات تلك العربات حين يتكرر دورانها فوق تلك الرمال. لا أدري لماذا يوحي إلىَّ منظرها بأنها أرملة مسكينة مات زوجها وهي في مقتبل العمر فذبلت زهرتها وذهبت نضارتها. وحين تصل وجهتك لابد أن تصلها مغبراً مترباً عند الروحة والرجعة.
والمركبات تهزني ذات اليمين أو الشمال
والمركبات تغص بالنسوان
واللغط الشديد وبالرجال
وكان رأسي في يدي
مـازال يقذفني اللعين كأنه الغربال
من أقصى اليمين إلى الشمال
وبقلبي الأمل المهشم والحنين إلى الجمال
والوحشة الغراء والنور المكفن بالظلال
وخلو أيامي ورأسي في يدي
حين أخرج إلى فضاء هذه البلدة الجالسة في حجر النيل متكئة على صدره مستقبلة القبلة ببيوتها وأذكر ماضيها القديم تسري الرهبة في جميع مسامي. أتخيل أن نافذة فتحت لي تطل على ذلك الزمان المتوهج مجداً فأرى الشيخ إدريس بن محمد الأرباب جالساً على فروته يستمع لشكوى الشيخ عجيب المانجلك ويشير عليه بشأن الخلاف مع الملك أونسة بن الملك طبل. وأراه تارة أخرى يفتي ويتكلم في علم الأولين والآخرين والأمم الماضية، وأكابر العلماء يكونون بين يديه كالأطفال ثم أشهد مجلسه وهو يناظر الشـريف عبد الوهاب، رجل أبوسمبل في حضـرة الشيخ عجيب المانجلك وأسمعه حين يعرض عليه الشيخ عجيب نصف ملكه يرده ويقول لا حاجة لي فيه. ثم أخرج معه لأزور موضع الملاجيء الأربعة التي أقامها ليأوي فيها طالبي الشفاعة. وأمر بالخلاوي فأسمع دوياً بالقرآن منبعثاً من أفواه الحيران. وأنظر إليه تارة أخرى فأرى الأجهورية معلقة وراء ظهره رمزاً لإعجاب علماء مصر وشيوخها في ذلك الزمان بعالم سوداني سناري عيلفوني أذعن لعلمه الجميع وتقاطر الملوك يطلبون رأيه وحكمته ومشورته. ثم أقول لنفسي هل نحن أحفاد هؤلاء العظماء حقاً؟ لا يمكن بل لا يجوز أن يكون هذا. وأغلق هذه النافذة في أسى ولا أريد أن أفتحها فهي تبين لي كم أصبحنا صغاراً وأقزاماً. نحن اعتدنا أن نبكي على ماضينا العظيم الذي ضيعناه ولكننا لا نسعى لنكون جديرين بذلك الماضي فجدارة الانتماء هي شيء يراه الناس مثل التاج فوق رأسك حين تتبع درب أولئك العظماء. العيلفون جمعت كل التناقضات في أحشائها ففي ليلة تراها مجتمعاً صوفياً نقياً تجمع فيه المحبون والمريدون خلف مسجد الشيخ وشرق مسيده وتنادوا ينقرون الطار، ترتفع أصواتهم بمدح النبي يهيمون وجداً وحباً له يتحزمون بالعمائم ويضربون النوبة بالعصي تتماسك أيديهم وتتقارب صفوفهم وتتباعد ذكراً ويسقط الدراويش وسط الحلقة صرعى ويتقافز الأطفال والشباب حباً وهياماً ويدورون حول أنفسهم طرباً وغراماً وتزغرد النساء وتأتي العذارى فتشهد تجليات الشيوخ ويطرب الليل فيصغي بمسامعه إليهم ويقبل بروحه عليهم وهو يخشى أن يطلع عليه النهار فيكشف تلك الأستار. ويوماً تراها وقد جن جنونها وأطل فتونها فخلعت رداءها وما أبقت إلا إزارها فتزينت عذاراها بكل ثوب بهيج وتنادى شبابها من كل فج عميق واجتمعوا في تلك الساحات، وتحلقوا حول السباتات والعريس فرحان يحمل سوطه ويبشر، والمغني الصيدح ينقر رقه ويدستر. وبناتها يتهادين ويتمايلن رقصاً ودلالا. والشباب الغر يتحزم ويتلزم ثم يركز ليزيدها بُطاناً ونزالا. ودوي مكبرات الصوت يصم الآذان. والحفل الساهر يمضي إلى قبيل الأذان. تشهد أفراحها فتقول هل في القوم عاقل؟ وترى أتراحها فتجزم أن هؤلاء هم ورثة الحياة الآخرة رهبان المحافل. تراهم حول أهل الميت زرافات ووحدانًا وتجزم أنه لم يبق في البيوت أحد فهم جميعهم أصبحوا أهل الميت يتجمعون في الساحات وتحت تلك الصيوانات. يقرأون الفاتحة ويفشون السلام ويطعمون الطعام. ويبقون هناك حتى حينٍ. يتواسون ويتراحمون.
هذا التباين الغريب هو الذي صنع من هذه القرية شيئاً لا تجده في أي مكان آخر وجعل أهلها رموزاً فريدة في التراحم والتماسك والتعاضد. كل واحد منهم هو نسيج وحده في الأخلاق والتفرد. غير أن العيلفون بقيت رغم هذا كله كما هي قرية صغيرة منزوية في ركن قصي من النيل الأزرق تبكي على ماضيها وتندب حظها وتتحسر على غضب النميري عليها فهي لم تشهد تطوراً ولا عمراناً ولا نماء بل ازداد الفقراء فقراً وانحسر الغنى عن الأغنياء والحال تبدلت والبلد أقفرت والناس هاجروا إلى دول الخليج يطلبون لقمة العيش. تركوا أسرهم وأبناءهم واغتربوا. هؤلاء توجهوا إلى ليبيا وأولئك إلى السعودية وآخرون إلى الكويت والإمارات وعمان وقطر واليمن. طرقات العيلفون خلت منهم والبيوت أصبحت قفراً. الهجرة فصلتهم عن مجتمعهم وتركت وراءهم أسراً مفككة بلا راع ولا مرب ولا وازع. حين تنشأ الأسرة بعيداً عن الأب والزوج والأخ الكبير تنحل القيم وتتعقد المشكلات وتنفصم العرى وتنشأ أجيال من الشباب غير معتمدة على أنفسها. أجيال تنتظر آخر الشهر حيث يرسل الأب التحويلات والمصاريف والثياب والشنط.
الناس في عهد النميري تغيروا كثيراً فأصبحوا مثل هذه الأرض البور، والكساد أطل بوجه قبيح والناس هجروا الزراعة يبحثون عن الوظيفة أو الكسب السريع. الجروف المجاورة للنيل في العيلفون والتي كانت تزود سوق الخضار في الخرطوم بجميع أنواع الخضروات لم تشهد زراعة البطيخ ولا الطماطم منذ زمان. المزارعون هجروها منذ دخول الكهرباء والتلفزيونات فهم يسهرون مع المسلسلات وينامون عن صلاة الفجر وقد كانوا في القديم يطربون لنباه مانديد وأذان مجذوب ويستيقظون مبكرين حتى لو سهروا مع حلقة النوبة في الخلوات أو مع المادحين وضاربي الطار. مزارعو العيلفون اكتفوا بزراعة البرسيم الذي لا يتطلب مجهوداً ولا رعاية ولكنه يأتي بعائد سريع!! والبلدات لم تعرف زراعة الذرة في الخريف عند هطول الأمطار في الجزء الشرقي من القرية منذ سنوات طويلة. وسمعنا أن وزير الحكم المحلي أصدر قراراً باستيلاء الحكومة على جميع الأراضي الزراعية المطرية والتروس وإضافتها لملكية الدولة وأصحاب التروس سكتوا خوفاً. وحين يضيق صدري بالبيوت أخرج إلى الجزء الشرقي من العيلفون وأتجاوز جميع المباني حيث البِلْدَات والتروس القديمة الخاوية التي تخلى عنها أصحابها وهجروها ليبحثوا عن الوظيفة في البندر أجد نفسي في الخلاء وسط شجيرات السيال والسنط بأوراقها الدقيقة وشوكها الحاد وبعض بقايا الأعشاب اليابسة يحركها الهواء الحار. أقف هناك ولا شيء يقطع الصمت غير صوت بص همام وأولاده القادم من رفاعة إلى الخرطوم عبر ذلك الطريق الترابي الأغبر أو بص الدبيبة بلونه المميز يقف قليلاً لنزول القادمين من الدبيبة وأم ضواًبان قبل أن يواصل سيره إلى الخرطوم. ثم يتلاشى صوته ويسود الصمت. هذا الخلاء كان جميلاً في الزمان الماضي ولكنه اليوم أشمط قبيح وأجرد مثل صلعة رجل عجوز جاوز الثمانين. أقف هناك فأحس بالضياع. آه لو كنت معي إذن لاهتز وجدانك لوعة مثلما حدث لي وأنا واقف هناك أردد أبيات صلاح أحمد ابراهيم التي كأنما كتبها وهو جالس فوق تَرَس الفكي رملي ينظر صوب تلك السهوب الخاوية البائسة:​
روحي مشقشقة بها عطش شديد للجمال
وعلى الشفاه الملح واللعنات والألم المحنط بالهزال
وكان رأسي في يدي
ساقاي ترتجفان من جوع
ومن عطش ومن فرط الكلال
وأنا أفتش عن ينابيع الجمال
وحدي بصحراء المحال
بسراب صحراء المحال
بسـموم صحراء المحال
أنا والتـعاسة والملال
وكان رأسي في يدي

 

احمد الحبر

Administrator
طاقم الإدارة
سرد ممتع وشيق يا دكتور عمر ..
دائماً ما تدهشنا في كل مره بروايات غاية في الامتاع والدسامة ..
 
أعلى