الشاعر أحمد محمد الشيخ الجاغريو... رحيل بلا وداع ( الحلقة الأخيرة)

Hisham Elkhalifa

New member
نستقبل اليوم يوما استثنائيا فى تاريخ السودان اليوم الذى رفرف فيه علم وطننا الحبيب فوق سارية القصر الجمهورى وانطوت صفحة من تاريخ السودان الحديث وفتحت صفحة جديدة مازال الشعب يسطر فيها البطولات تلو البطولات بالدم والعرق لم تقعده قبضة العسكر الحديدية عبر ثلاث حقب مظلمة من النهوض بعد كل كبوة والمضى قدما للامام فى عزة واباء وشمم يردد أهازيج النصر وأناشيد الفخار. فى مثل هذا اليوم أيضا من العام ١٩٦٩م صعدت روح شاعرنا إلى بارئها فى سكينة ووقار كما عاشت حتى جاء القدر المحتوم. ترك الجاغريو ارثا ضخما من الشعر والغناء والطرب فقد برع فى كل ذلك وابدع وقد ذكر لى الاخ الصديق السر قدور أن الجاغريو هو اول سودانى يجمع هذه المواهب الثلاث الشعر والتلحين والغناء رغم أن البعض ينسبون ذلك الغيرة وما يفتيك مثل خبير. من اللباقة والبلاغة أن نذكر كما توجهنا لذلك فى مناسبة سابقة انه كان ( يقطع ) الشعر ( قطع اخدر ) أى ينظم الكلام ويلحنه ويغنيه فى نفس وقت الحدث وساعته نذكر من ذلك اغنية ( المنديل ) وقصتها انه كان يحى حفلا فى احد احياء العاصمة وقد تلألأت الأنوار وانتشرت الأزهار الجميلة وتناثرت فوق المقاعد واستبد الطرب والسرور والحبور بالجميع. جلس شاعرنا فى فاصل بين فاصلين ليستريح وعندما تحسس جيبه لمسح حبات العرق التى غطت جبينه لم يجد منديله هناك وكأنما انغرست فى تلك اللحظة شوكة فى قلبه فهذا المنديل عزيز هدية من عزيز . بقى واجما فترة ولكن سرعان ما طار ( يونس ) - شيطان شعره- من فوق الشجرة فى حوش عبدالله المجاور لمنزل أبناء الخليفة بركات الحالى بفريق وراء ليهبط على راس الشاعر فالهمه اغنية ( المنديل ) شعرا ولحنا. هذه الأغنية استدعى فيها كل ارث الصوفية وتراثها ذلك الذى تشربه من البيئة التى نشأ فيها ( فنده ) اى استعان بكل الأولياء والصالحين فى السودان ليساعدوه فى العثور على ( الكنز المفقود ) فتنتقل القصيدة فى رشاقة بين قباب الصالحين التى تزين سماء السودان بسلاسة و ترتيب فاخترت منها الفاصل التالى وغنى كما لم يغنى من قبل :
منديلى ضاع منى والشالو ما يتنى
ما يشيل خلافو
****
يا ود حسونه الحار
يا صاحب الدردار
حبر ديرى الفى البدار
اخلوه من الدار
ما يشيل خلافو
****
ود ريا الرابعه
يا اب فيضا نابعا
سل روحو تابعا
يشيلوه الاربعه
ما يشيل خلافو
****
يا رجال اب حراز
مافيكم انفراز
هيا اطلعوا للبراز
خلوه يمشى راز
ما يشيل خلافو
****
يا الشيخ ود أم مريوم
خليهو العيش مسقوم
منديلى الما مسيوم
يبقى ليهو اخر يوم
ما يشيل خلافو
****
يا برير و يا النقر
الشالو لى ما قر
يضوق سم الدقر
وابوه يكون عقر
ما يشيل خلافو
****
دى هديه وجات تهوش
فينا وتسوى البوش
الشالو راسو يدوش
والبومة تحرس الحوش
ما يشيل خلافو
( القصيدة طويلة و هذه مقتطفات منها فقط )
ويقال ان فتاة وجدت المنديل بقرب الشاعر سقط من جيبه فى غفلة منه فما كان منها إلا أن التقطته تذكارا من شاعر عظيم وللتباهى أمام الفتيات فما أن تخيلت كل هؤلاء الصالحين يتكالبون عليها استجابة ل ( نديهة ) الجاغريو حتى تبلمت واسرعت فقذفت بالمنديل امامة وفرت هاربة من بيت الحفل درء" للفضيحة . وفى ( قطع اخدر ) اخر
كان مشاركا فى حفل زواج احد أصدقاءه مع فنان العيلفون الصداح ( ود طه ) واسمه الحقيقى عبد القادر طه فالف الجاغريو فى التو والحين اغنية ( تمت الافراح ) والتى يقول فيها :
تمت الافراح واملا كأس الراح
يا الطيب اتهنى
****
الظبى النافر لف صد وجيل
يا فطاحل برئ احذروا الجلجيل
يا حبيب اتهنى
****
إلى أن ياتى الى المقطع الذى يقول فيه:
غنى يا ود طه وزيل هموم الجيل
و يا محمد سجل عندك التسجيل
ومحمد هنا هو العم محمد بخيت العمده ابن العمده وابو الاخ العمده اسامه محمد بخيت واخوانه الكرام.
من الاغانى التى تدغدغ مشاعرى وتحركها اغنية ( الحجروك حبى )
وفيها يقول :
الحجروك حبى وعملوا السبب حبى
كيف ينزعوا الصوره المرسومه فى قلبى
****
يا فرحى و هناى يا بهجتى وطربى
فيك املى ومناى فيك بجيد غناى
ما بعشق سواك وين منى متخبى
وتمضى الأغنية تصف حال العاشق الذى ( انحبس ) حبيبه منه بحوائط تطاولت فحرمته اللقيا ولو من على البعد. وبرغم انها لا تعبر عن حالة شخصية ولكن اعجبنى تعبيرها البليغ عن مشاعر من يحب عندما لا يعرف سبيلا لرؤية المحبوب فيكتفى بتأمل الصورة التى يحملها فى دواخله مرسومة على جدار القلب رسما لا ينمحى وقد فاجأني اخى وصديقى السر قدور بأن اهدانى هذه الأغنية فى برنامج (اغانى واغانى ) بصوت الفنان الشاب ( فضل ) .
وفى يوم الاربعاء ١/١/٦٩ فاضت روح الشاعر إلى السماء وهو نائم لا يشكو علة ولا مرض ورحل قبل أن يودع اهله واحبابه تماما مثلما تمنى حين قال :
ذكرى المطره الشاعت
يوم الاربعاء
اريت ارواحنا ضاعت
حليله
المسبوكة ضاعت
فكأنها كانت ساعة استجابة حضرها ملك وقال ( أمين ) وهكذا انتهت رحلة قصيرة ولكنها محتشدة بالابداع و الفن . أذكر ذلك اليوم كأنه حدث بالأمس و رسول الازهرى يطلب من الاهل أن يتأخر الدفن حتى نهاية مراسم الاحتفال بعيد الاستقلال يستجيبوا للطلب ثم موكب التشييع المهيب يتقدمهم الازهرى و كبار زعامات الحزب الاتحادى واهلة واحبابه يختلط فيها عويل النساء يعرضن بالسيوف ونحيب الرجال وما اقسى أن يبكى الرجال الرجال .
انطوت صفحة ناصعة فى تاريخ العيلفون كما انطوى عام مضى و أشرقت شمس عام جديد اتمنى فيه للجميع الصحة والعافية الشخصية أن شاء الله.
هشام الخليفة القاهرة /العيلفون
١/١/٢٠٢١
* اهدى هذه الحلقات للاخ الصديق محمد عبد الرحمن الشيخ الأستاذ بجامعة أفريقيا العالمية ابن أخ الراحل وسادن تراثه وتاريخه وانوه إلى ان الاستاذ الإعلامى الكبير السر قدور قد وجه كلمة بهذه المناسبة للأهل فى الدبيبة و العيلفون وكل أنحاء العام فى هذه الذكرى الحزينة مرفقة مع هذه الحلقة *
 
أعلى