ودالفحل
New member
قال لي والدي إن هذه البلدة هي التي صنعت تاريخ السودان. قالها بفخر وهو ينفث سيجارة في الهواء. وكنت أظن أنها من تهويلات أبي ومبالغاته فهو أحياناً يأتي بما لم تستطعه الأوائل. ولكنه يبدو أنه في هذه المرة كان محقاً فقد مضى يسرد تاريخاً.
- يا ولدي عيب تكون من العيلفون وما تكون عارف إنو أول دولة إسلامية عربية في السودان أعلنوها من جوة مسيد أبوك الشيخ إدريس ودالأرباب سلطان العلماء الهسة جنب بيتنا ده.
- يابا بالغت!!
- الكلام ده ما بتلقاه عند أي زول أخير تسمعه مني أنا أبوك. عجيب المانجلك في آخر حياته اختلف مع الملك أونسة. قام عجيب جا للشيخ إدريس يستشيره وقال ليهو أونسة أفسد البلاد وغير معالم الشريعة وأنا نصـحته ما قبل نصيحتي واستخف بي. وأنا عزمت أحاربه. قام الشيخ قال ليهو: الراجل أيامه مقبلة وبكتلك (يقتلك). قام عجيب قال للشيخ: وإن كان، لأنو عندي الرجال والخيل وأنا مطالب بإزالة المفاسد.
- وحصل شنو؟ كتلو (قتله) فعلاً؟
- حصلت الحرب والفونج كتلو الشيخ عجيب المانجلك في كركوج الشهيرة، ورموه في البحر والبحر شال الجثمان شمالاً لحد ما وصل مضارب العبدلاب وارتكز النعش على ضفة النيل الأزرق في العيلفون. قام أبونا الشيخ إدريس خرج للجثمان وصلى عليه وبعد الصلاة جمع القوم وعرض عليهم الصلح مع الفونج فوافقوا. قام أرسل في طلب قادة الفونج. والفونج حضروا، وتم الصلح في العيلفون على يد الشيخ ادريس وحصل إعلان قيام الدولة الإسلامية في مسيد العيلفون باتحاد الفونج والعبدلاب.
- والله دي معلومة خطيرة أنا ما كنت عارفها.
- أزيدك في الشعر بيت.
- أهاا!
- الدولة الإسلامية أعلنت من العيلفون مرتين في التاريخ مو مرة واحدة.
- المرة التانية متين يابا؟
- في عهد غردون. غردون لما رسل الوفد للشيخ العبيد ودبدر في بداية الثورة المهدية وطلب حضوره بعد ما عرف وتأكد إن قبايل الشرق التفوا حول الشيخ العبيد في سنة 1884م. قام الشيخ العبيد طلب من وفد غردون الانتظار لحد ما يمشي يطلب الإذن من خلافة جده الشيخ ادريس.
- يابا قول كلام غير ده. الشيخ ادريس ود الأرباب هو جد العبيد ودبدر؟ العبيد ود بدر علاقته شنو كمان بالشيخ ادريس ود الأرباب؟
- انت الظاهر عليك ما بتعرف تاريخ أجدادك. هاك المعلومة دي. الشيخ العبيد ينتمي للدوحة الادريسية. يعني الشيخ إدريس ود الأرباب يعتبر هو جده السادس من جدته لأمه بنت مصطفي عبدالدافع ود أحمد ود عيسى وأمها بنت أحمد ود خراش ود رملي ود الشيخ إدريس ود الأرباب.
- والله ده كلام عجيب خلاص!
- أها أكمل ليك حكاية غردون؟
- أيوه يابا كمل كمل قول.
- الشيخ العبيد بعد ما مشى العيلفون أعلن من هناك حصار الخرطوم ورفض يمشي مع وفد غردون للخرطوم، وقال قولته المشهورة معلنا تمرده ومحاصرته للخرطوم: (مِنَّ العيدْ للعيدْ بَرَمْنَا اللِّيدْ، والباقي حُكْمَ السِّيْدْ!!) وخرج معاهو الشيخ أحمد ودالفريع مرافق لحد ما وصلوا امضواًبان. وبعد ما رجع ود الفريع قابل جنود غردون وحصلت الكتلة (القتلة) بينه وبينهم لحد ما كتلوه (قتلوه) فكان أول شهيد في حصار الخرطوم.. وبعدها الشيخ العبيد وأبناؤه ورفيقه الشيخ مضوي عبدالرحمن حاصروا الخرطوم من جهاتها التلاتة. وكانت واقعة امضواًبان وحلينقو والحلفاية. وبوابة المسلمية. أها العيلفون دي صنعت التاريخ القديم والجديد يا «عبد العزيز» ياولدي. بس أنا المستغرب ليهو إنو رغم أن العيلفون كانت هي مقر إعلان الدولة السودانية الوطنية في العصر الحديث، وأنو مسيد الشيخ إدريس هو القاعدة الانطلق منها إعلان الدولة الأولى وتحرير التانية. انو ولا أي نظام ولا حكومة تعمل حاجة تخلد ذكرى العيلفون ولا تخلد ذكرى سلطان العلماء أبونا الشيخ ادريس ولا العبيد ودبدر. وتبقى العيلفون تابعة بعد ما كانت متبوعة وتبقى ضنب (ذنب) بعد ما كانت راس.
- صاح والله يابا المفروض على الأقل يطلقوا أسماء شوارع أو مؤسسة في العاصمة المثلثة على الناس الحرروها ديل والخرطوم دي أصلاً حقتهم وواطاتها ملكهم وهم الأسسوها. عشان كده يمكن نحن ناس العيلفون بقينا معارضة لكل حكومة بالفطرة كدا وبدون ما نقصد. والعيلفون لو ما رجعت راس - زي ما كانت زمان -السودان ده ما بيستعدل ولا بيمشي لي قدام. ومين عارف يمكن ربنا يبعت للسودان ده حاكم ذكي يكتشف الحاجة دي ويرجع لينا حقنا المسلوب. والله يابا البلد دي كل حاجة فيها ماشية بالمقلوب. لى هسة مسوين التماثيل لى غردون وكتشنر لكن المهدي ما عنده تمثال ولا جدنا الشيخ ادريس ود الأرباب.
- انت جنيت ياولد؟ المهدي يسووا ليهو التماثيل والأصنام؟ وكمان جدك الشيخ ادريس سلطان الأوليا؟ التماثيل دي حقت الخواجات الكفار.
- صاح يابا.!!
وامتلأت زهواً وفخراً بما سمعت من أبي. وانتبهت إلى أن الناس هنا في هذه القرية كأنهم من عالم آخر. وأن هذه البلدة جمعت تاريخ السودان كله بين زواياها وبيوتها القديمة وآثارها وناسها وسحناتهم ووجوههم. تحس بالفرق حين تخرج إلى مجتمعات أخرى وتحمد الله على أن هذا المجتمع بقي كما هو حتى الآن فهم مازالوا متكاتفين رغم ضيق ذات اليد. حين أسير في الطرقات أحس أن كل بيت هو بيتنا، أدخله بلا استئذان وأنادي كل كبير ياعمي وكل كبيرة يا أمي وكل غريبة ياخالتي. الكبار يرسلوننا لحاجتهم ويثقون بنا ونحن نفرح لهذا.
لكنني لاحظت أن مجتمع العيلفون ومجتمع السودان أخذ في التحول والتغير في عهد مايو. السياسة وتغير الحكومات وتبدل الأنظمة فعل فعله فأفسد تلك البراءة وفك ذلك الترابط الذي كنا نحس به ونحن صغار. نشأت أجيال من الشباب الضائع الذي لم يجد الاهتمام ولا الرعاية فتخبط على غير هدى وسار بلا دليل. أعداد كبيرة من الشباب الفاشلين العاطلين بلا أحلام ولا تطلعات، أصبحوا يسيرون في الطرقات بلا هدف. العيلفون خلت من التجمعات الثقافية وأندية الرعاية الاجتماعية والتربوية والناس شغلوا بلقمة العيش والمتعلمون والمثقفون هاجروا. وأنا كنت أحد أولئك الضحايا حين بلغت المراهقة فقد أصبحت كسلاناً أمضي معظم الوقت في النوم. أو التسكع في الأزقة والطرقات أو الجلوس في دكان حسن العربي أراقب شلة العطالة وهم يجلسون في ظل الكبانية التي أمام صهريج الماء (يخمسون) السجائر والسعوط وينتظرون بنات الثانوية العامة. وحين تأكل الشمس كل ما بقي من ظل الكبانية ينتقلون للجلوس في ظل الصهريج ويغامرون بالتعرض لرشات الماء من فوهة الصهريج حين يمتليء بالماء ويفيض. والبعض منهم مغرم بالتجوال في أزقة الأحياء لا يهدأ لهم بال يطوفونها كل يوم بلا هدف ولا موضوع:
- الليلة لفيناها من ست الفوت لى ود تناد!
يردده الشباب العاطل. يعني أنه بدأ جولته من حدود العيلفون الشمالية في فريق بتري حيث منزل تلك المرأة ست الفوت ولم يقف حتى وصل أقصى حدودها الجنوبية في رمال الدويخلة عند العم ود تناد. أعداد قليلة منهم تنشغل بلعب الكرة من بعد العصر وفي الأمسيات يتجمع الشباب والعاطلون في الأندية التي تجد مكتوباً في لوحاتها المعلقة عند المدخل: (النادي الثقافي الاجتماعي الرياضي) ولكن واقع الأمر أنها قد خلت في ذلك الزمان من أي نشاط ثقافي أو اجتماعي بل حتى الرياضة لا توجد إلا في كرة القدم وكرة القدم فقط هي كل الرياضة ولا يمارسها إلا القليل من اللاعبين في حين تبقى الأغلبية مشجعة أو متفرجة. وكنت مثلهم أذهب كل ليلة لنادي الوفاق وأراهم يلعبون الورق (الكوتشينة) ويشربون شاي عبد الغفار والبعض يتابع المسلسلات فيجلسون أمام التلفاز الذي تحول إلى اللون الأسود بفعل الزمن حتى نسينا لونه الأصلي يوم اشتروه. وحين تتسخ شاشته يتبرع أحدهم بمسحها بقطعة تزيل الغبار وتكفي للفرجة. ليالي الأندية بائسة فقيرة يكثر فيها اللغط حول كرة القدم والدوري وينطلق الشجار بين الفينة وأختها هنا وهناك أو حينما يغش أحدهم في لعب الكوتشينة. والأيام مضت وتسللت من بين أيدينا. كانت كئيبة ولكنها على الأقل لم تكن ساكنة فقد كانت تمضي وكنا نكبر قليلاً قليلاً. وكنت دائماً أجلس منزوياً في ركن قصي في النادي اتفرج على لعب تنس الطاولة وفي أحيان قليلة أشارك اللاعبين. ولم يكن لي أصدقاء بعد صلاح والعنف لم يترك لي صاحباً
- يا ولدي عيب تكون من العيلفون وما تكون عارف إنو أول دولة إسلامية عربية في السودان أعلنوها من جوة مسيد أبوك الشيخ إدريس ودالأرباب سلطان العلماء الهسة جنب بيتنا ده.
- يابا بالغت!!
- الكلام ده ما بتلقاه عند أي زول أخير تسمعه مني أنا أبوك. عجيب المانجلك في آخر حياته اختلف مع الملك أونسة. قام عجيب جا للشيخ إدريس يستشيره وقال ليهو أونسة أفسد البلاد وغير معالم الشريعة وأنا نصـحته ما قبل نصيحتي واستخف بي. وأنا عزمت أحاربه. قام الشيخ قال ليهو: الراجل أيامه مقبلة وبكتلك (يقتلك). قام عجيب قال للشيخ: وإن كان، لأنو عندي الرجال والخيل وأنا مطالب بإزالة المفاسد.
- وحصل شنو؟ كتلو (قتله) فعلاً؟
- حصلت الحرب والفونج كتلو الشيخ عجيب المانجلك في كركوج الشهيرة، ورموه في البحر والبحر شال الجثمان شمالاً لحد ما وصل مضارب العبدلاب وارتكز النعش على ضفة النيل الأزرق في العيلفون. قام أبونا الشيخ إدريس خرج للجثمان وصلى عليه وبعد الصلاة جمع القوم وعرض عليهم الصلح مع الفونج فوافقوا. قام أرسل في طلب قادة الفونج. والفونج حضروا، وتم الصلح في العيلفون على يد الشيخ ادريس وحصل إعلان قيام الدولة الإسلامية في مسيد العيلفون باتحاد الفونج والعبدلاب.
- والله دي معلومة خطيرة أنا ما كنت عارفها.
- أزيدك في الشعر بيت.
- أهاا!
- الدولة الإسلامية أعلنت من العيلفون مرتين في التاريخ مو مرة واحدة.
- المرة التانية متين يابا؟
- في عهد غردون. غردون لما رسل الوفد للشيخ العبيد ودبدر في بداية الثورة المهدية وطلب حضوره بعد ما عرف وتأكد إن قبايل الشرق التفوا حول الشيخ العبيد في سنة 1884م. قام الشيخ العبيد طلب من وفد غردون الانتظار لحد ما يمشي يطلب الإذن من خلافة جده الشيخ ادريس.
- يابا قول كلام غير ده. الشيخ ادريس ود الأرباب هو جد العبيد ودبدر؟ العبيد ود بدر علاقته شنو كمان بالشيخ ادريس ود الأرباب؟
- انت الظاهر عليك ما بتعرف تاريخ أجدادك. هاك المعلومة دي. الشيخ العبيد ينتمي للدوحة الادريسية. يعني الشيخ إدريس ود الأرباب يعتبر هو جده السادس من جدته لأمه بنت مصطفي عبدالدافع ود أحمد ود عيسى وأمها بنت أحمد ود خراش ود رملي ود الشيخ إدريس ود الأرباب.
- والله ده كلام عجيب خلاص!
- أها أكمل ليك حكاية غردون؟
- أيوه يابا كمل كمل قول.
- الشيخ العبيد بعد ما مشى العيلفون أعلن من هناك حصار الخرطوم ورفض يمشي مع وفد غردون للخرطوم، وقال قولته المشهورة معلنا تمرده ومحاصرته للخرطوم: (مِنَّ العيدْ للعيدْ بَرَمْنَا اللِّيدْ، والباقي حُكْمَ السِّيْدْ!!) وخرج معاهو الشيخ أحمد ودالفريع مرافق لحد ما وصلوا امضواًبان. وبعد ما رجع ود الفريع قابل جنود غردون وحصلت الكتلة (القتلة) بينه وبينهم لحد ما كتلوه (قتلوه) فكان أول شهيد في حصار الخرطوم.. وبعدها الشيخ العبيد وأبناؤه ورفيقه الشيخ مضوي عبدالرحمن حاصروا الخرطوم من جهاتها التلاتة. وكانت واقعة امضواًبان وحلينقو والحلفاية. وبوابة المسلمية. أها العيلفون دي صنعت التاريخ القديم والجديد يا «عبد العزيز» ياولدي. بس أنا المستغرب ليهو إنو رغم أن العيلفون كانت هي مقر إعلان الدولة السودانية الوطنية في العصر الحديث، وأنو مسيد الشيخ إدريس هو القاعدة الانطلق منها إعلان الدولة الأولى وتحرير التانية. انو ولا أي نظام ولا حكومة تعمل حاجة تخلد ذكرى العيلفون ولا تخلد ذكرى سلطان العلماء أبونا الشيخ ادريس ولا العبيد ودبدر. وتبقى العيلفون تابعة بعد ما كانت متبوعة وتبقى ضنب (ذنب) بعد ما كانت راس.
- صاح والله يابا المفروض على الأقل يطلقوا أسماء شوارع أو مؤسسة في العاصمة المثلثة على الناس الحرروها ديل والخرطوم دي أصلاً حقتهم وواطاتها ملكهم وهم الأسسوها. عشان كده يمكن نحن ناس العيلفون بقينا معارضة لكل حكومة بالفطرة كدا وبدون ما نقصد. والعيلفون لو ما رجعت راس - زي ما كانت زمان -السودان ده ما بيستعدل ولا بيمشي لي قدام. ومين عارف يمكن ربنا يبعت للسودان ده حاكم ذكي يكتشف الحاجة دي ويرجع لينا حقنا المسلوب. والله يابا البلد دي كل حاجة فيها ماشية بالمقلوب. لى هسة مسوين التماثيل لى غردون وكتشنر لكن المهدي ما عنده تمثال ولا جدنا الشيخ ادريس ود الأرباب.
- انت جنيت ياولد؟ المهدي يسووا ليهو التماثيل والأصنام؟ وكمان جدك الشيخ ادريس سلطان الأوليا؟ التماثيل دي حقت الخواجات الكفار.
- صاح يابا.!!
وامتلأت زهواً وفخراً بما سمعت من أبي. وانتبهت إلى أن الناس هنا في هذه القرية كأنهم من عالم آخر. وأن هذه البلدة جمعت تاريخ السودان كله بين زواياها وبيوتها القديمة وآثارها وناسها وسحناتهم ووجوههم. تحس بالفرق حين تخرج إلى مجتمعات أخرى وتحمد الله على أن هذا المجتمع بقي كما هو حتى الآن فهم مازالوا متكاتفين رغم ضيق ذات اليد. حين أسير في الطرقات أحس أن كل بيت هو بيتنا، أدخله بلا استئذان وأنادي كل كبير ياعمي وكل كبيرة يا أمي وكل غريبة ياخالتي. الكبار يرسلوننا لحاجتهم ويثقون بنا ونحن نفرح لهذا.
لكنني لاحظت أن مجتمع العيلفون ومجتمع السودان أخذ في التحول والتغير في عهد مايو. السياسة وتغير الحكومات وتبدل الأنظمة فعل فعله فأفسد تلك البراءة وفك ذلك الترابط الذي كنا نحس به ونحن صغار. نشأت أجيال من الشباب الضائع الذي لم يجد الاهتمام ولا الرعاية فتخبط على غير هدى وسار بلا دليل. أعداد كبيرة من الشباب الفاشلين العاطلين بلا أحلام ولا تطلعات، أصبحوا يسيرون في الطرقات بلا هدف. العيلفون خلت من التجمعات الثقافية وأندية الرعاية الاجتماعية والتربوية والناس شغلوا بلقمة العيش والمتعلمون والمثقفون هاجروا. وأنا كنت أحد أولئك الضحايا حين بلغت المراهقة فقد أصبحت كسلاناً أمضي معظم الوقت في النوم. أو التسكع في الأزقة والطرقات أو الجلوس في دكان حسن العربي أراقب شلة العطالة وهم يجلسون في ظل الكبانية التي أمام صهريج الماء (يخمسون) السجائر والسعوط وينتظرون بنات الثانوية العامة. وحين تأكل الشمس كل ما بقي من ظل الكبانية ينتقلون للجلوس في ظل الصهريج ويغامرون بالتعرض لرشات الماء من فوهة الصهريج حين يمتليء بالماء ويفيض. والبعض منهم مغرم بالتجوال في أزقة الأحياء لا يهدأ لهم بال يطوفونها كل يوم بلا هدف ولا موضوع:
- الليلة لفيناها من ست الفوت لى ود تناد!
يردده الشباب العاطل. يعني أنه بدأ جولته من حدود العيلفون الشمالية في فريق بتري حيث منزل تلك المرأة ست الفوت ولم يقف حتى وصل أقصى حدودها الجنوبية في رمال الدويخلة عند العم ود تناد. أعداد قليلة منهم تنشغل بلعب الكرة من بعد العصر وفي الأمسيات يتجمع الشباب والعاطلون في الأندية التي تجد مكتوباً في لوحاتها المعلقة عند المدخل: (النادي الثقافي الاجتماعي الرياضي) ولكن واقع الأمر أنها قد خلت في ذلك الزمان من أي نشاط ثقافي أو اجتماعي بل حتى الرياضة لا توجد إلا في كرة القدم وكرة القدم فقط هي كل الرياضة ولا يمارسها إلا القليل من اللاعبين في حين تبقى الأغلبية مشجعة أو متفرجة. وكنت مثلهم أذهب كل ليلة لنادي الوفاق وأراهم يلعبون الورق (الكوتشينة) ويشربون شاي عبد الغفار والبعض يتابع المسلسلات فيجلسون أمام التلفاز الذي تحول إلى اللون الأسود بفعل الزمن حتى نسينا لونه الأصلي يوم اشتروه. وحين تتسخ شاشته يتبرع أحدهم بمسحها بقطعة تزيل الغبار وتكفي للفرجة. ليالي الأندية بائسة فقيرة يكثر فيها اللغط حول كرة القدم والدوري وينطلق الشجار بين الفينة وأختها هنا وهناك أو حينما يغش أحدهم في لعب الكوتشينة. والأيام مضت وتسللت من بين أيدينا. كانت كئيبة ولكنها على الأقل لم تكن ساكنة فقد كانت تمضي وكنا نكبر قليلاً قليلاً. وكنت دائماً أجلس منزوياً في ركن قصي في النادي اتفرج على لعب تنس الطاولة وفي أحيان قليلة أشارك اللاعبين. ولم يكن لي أصدقاء بعد صلاح والعنف لم يترك لي صاحباً